اذا نظرنا الي الأزمة الحالية المتفاقمة بين تركيا وحكومة كردستان العراق، من زاوية الربح والخسارة، يمكن القول بان حكومة رجب طيب اردوغان ستكون الرابح الاكبر ايا كانت النتائج، بينما ستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق، عرباً واكرادا الخاسر الاكبر دون جدال.
رئيس الوزراء التركي اظهر حنكة سياسية غير مسبوقة، عندما ادار الازمة هذه بذكاء شديد، والقي بالكرة في الملعب الامريكي، وجلس يتفرج من بعيد منتظرا الحصاد الكبير.
الارتباك الامريكي بدا واضحا من خلال الاستجداءات المتكررة من قبل الادارة الامريكية، والرئيس جورج دبليو بوش علي وجه الخصوص، لتركيا بضبط النفس، وعدم المضي قدماً بتهديداتها باجتياح شمال العراق لتدمير قواعد حزب العمال الكردستاني، وتقاطر المسؤولين العراقيين، وآخرهم السيد طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي، الي العاصمة التركية بحثاً عن حلول دبلوماسية للأزمة.
ما تريده تركيا، اي منع حزب العمال الكردستاني من شن هجمات علي اراضيها من شمال العراق، سيتحقق، او بالاحري بدأ يتحقق فعلا، حتي قبل ان تحرك جنديا واحدا، والاهم من ذلك ان هذه الازمة خلقت وحدة نادرة بين المؤسستين السياسية والعسكرية رغم التناقض الكبير بينهما.
فللمرة الاولي، ومنذ فوز حزب العدالة والتنمية الاسلامي بزعامة اردوغان باغلبية المقاعد البرلمانية وتشكيل الحكومة، يجد هذا الحزب نفسه مدعوعا من قيادات الجيش التركي، الذين نظروا اليه بارتياب، باعتباره يشكل تهديدا للعلمانية في تركيا، وتراث مهندسها كمال اتاتورك.
والاهم من ذلك ان الاتراك اثبتوا عمليا انهم يقدمون مصالحهم الوطنية علي تحالفهم مع الولايات المتحدة الامريكية، ولا يترددون لحظة واحدة في التأكيد علي قرارهم السيادي المستقل اذا تعارضت المصالح التركية مع مصالح الحليف الاستراتيجي الامريكي، مثلما شاهدنا كيف اغلقت الحكومة التركية اجواءها في وجه الطائرات الحربية الامريكية المنطلقة من قاعدة انجليك، وكيف منعت القوات الامريكية من المرور عبر الاراضي التركية في طريقها لغزو العراق في آذار (مارس) 2003، علي عكس الدول العربية التي فتحت اراضيها وقواعدها وسخرت اعلامها لدعم هذا الغزو.
امريكا الخاسر الاكبر لانها تعيش اكثر من مأزق بسبب هذا القرار التركي بالاجتياح، فقد وحدت السياسة الامريكية قصيرة النظر في العراق الشعب التركي خلف حكومته اولا، ووحدت اهم عدوين لدودين، اي ايران الشيعية وتركيا السنية ضدها وضد احتلالها للعراق ثانيا، وهو امر كان من المتعذر تصوره قبل اشهر معدودة. وهو تحالف اذا ما تطور سيشكل ضربة كبيرة لأي تحرك امريكي لضرب المفاعلات النووية الايرانية.
اجتياح القوات التركية لشمال العراق اذا ما حدث سيشكل اكبر احراج للولايات المتحدة وادارتها، لان الخيارات الامريكية ستكون صعبة، علاوة علي كونها محدودة، فالتصدي لهذا الاجتياح سيعني نهاية التحالف الامريكي ـ التركي، وانضمام تركيا الي معسكر اعداء امريكا. وعدم التصدي له ربما يؤدي الي انهيار التحالف الكردي الامريكي، وإظهار امريكا في مظهر الضعيف في اعين جميع شعوب المنطقة.
فالانجاز الاكبر الذي حققته القيادات الكردية وسط حالة الانهيار والتمزق التي تسود العراق حاليا، هو الامن والاستقرار اللذان تنعم بهما مناطقهم هذه الايام، وهذا الاستقرار دفع هذه القيادات الي التصرف وكأنهم يتزعمون دولة مستقلة، يفتحون المطارات، ويرفعون العلم الكردي، ويلغون تدريس اللغة العربية، ويستعرض زوارهم حرس الشرف في المطارات، والاهم من ذلك يوقعون اتفاقات تنقيب مع شركات نفط عالمية دون موافقة، او حتي استشارة، الحكومة المركزية في بغداد.
وأي اجتياح تركي سيعني الفوضي والانهيار الامني، وربما نهاية حلم الاستقرار، ونسف مقومات السيادة المتنامية.الحكومة التركية ادارت الأزمة بحكمة كبيرة، عندما مهدت للاجتياح دستورياً، من خلال خطوات بطيئة ومدروسة، مثل اللجوء الي البرلمان والمؤسسات الديمقراطية، والاحتفاظ بحق التنفيذ في اي وقت، وقذفت بهذا التصرف العاقل الموزون بالكرة الي ملاعب الاخرين جميعا، وحصلت في الوقت نفسه علي تأييد ومساندة اهم جارين وهما ايران وسورية، حيث اعرب رئيس الاخيرة عن مساندته للحق التركي في اجتياح شمال العراق، وهو تأييد ينطوي علي نحو تحالف استراتيجي جديد، ربما يتطور الي تحالف ثلاثي بين دولتي محور الشر (ايران وسورية) ودولة اقليمية عظمي هي تركيا.
الغرب يدفع بتركيا للاتجاه شرقاً والعودة الي ماضيها الامبراطوري الاسلامي، سواء من خلال اغلاق باب الانضمام الي عضوية الاتحاد الاوروبي في وجهها، لاسباب عنصرية دينية، او باستفزاز مشاعرها القومية وتوجيه اهانات لها، من خلال تحريك ملف مجازر الأرمن، مثلما فعلت لجنة في الكونغرس الامريكي مؤخراً.ومن المفارقة ان القيادة الكردية العراقية التي تجد نفسها في مأزق خطير، وجدت نفسها وحيدة دون اي حلفاء عرب او مسلمين في مواجهة هذه التهديدات التركية، مما يعكس قصر نظرها، وغياب الحكمة والعقل عن دوائر صنع القرار في مؤسساتها السياسية والدبلوماسية.
ولعل الشخص الوحيد الذي هب الي نجدتها هو السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الذي وعد السيد اردوغان بتصفية قواعد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق في مكالمة هاتفية اجراها مع الاخير. ولا نعتقد ان السيد اردوغان سيأخذ كلام المالكي علي محمل الجد، لانه يعرف بانه لا يملك جيشا ولا طائرات اولا، وغير مسموح له ان يقرر بشأن اقليم كردستان ثانيا، ولا يستطيع حماية نفسه ثالثا.
تركيا تستعيد مكانتها كقوة اسلامية اقليمية عظمي بشكل متسارع وتدير ظهرها الي الغرب، وامريكا علي الخصوص، بخطوات تدريجية مدروسة، فهي تقدم نموذجا للديمقراطية في السيادة والحكمة والقرار المستقل والتقدم الاقتصادي والقوة العسكرية، غير موجود في العالم الاسلامي بسبب حالة الاذلال التي تعيشها شعوب المنطقة علي يد الانظمة الديكتاتورية، والحروب الامريكية الفاشلة في افغانستان والعراق والمتوقعة ضد ايران.
تركيا هددت سورية بالاجتياح العسكري ردا علي هجمات مماثلة لحزب العمال الكردستاني، فالتقط الرئيس الراحل حافظ الاسد الرسالة بسرعة، وبادر الي ابعاد عبد الله اوجلان الي نيروبي لكي يقع في شباك المخابرات التركية وينتهي به المطاف خلف قضبان سجونها، وهي الآن تلوح بالورقة نفسها ضد السيدين جلال الطالباني ومسعود البارزاني في شمال العراق، فهل يفعلان ما فعله الاسد الكبير ويرفعان ما فعله الاسد الكبير ويرفعان الراية البيضاء، وينقلبان ضد ابناء جلدتهما؟ ليس امامهما اي خيار آخر في واقع الحال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق