عبد الباري عطوان
القدس العربي
27.08.2007
تعكس حالة السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي، والعزلة التي تعيشها حكومته، والاخفاقات المتوالية التي تواجهها، محنة هذا البلد في اوضح صورها، والحاضر البائس الذي يعيشه، والمستقبل الغامض الذي ينتظره.
الاجماع الوحيد الذي يوحد العراقيين علي مختلف طوائفهم، واعراقهم، ومذاهبهم، هو علي فشل السيد المالكي وحكومته، وضرورة استقالته او اقالته، والشخص الوحيد الذي يخالف هذا الاجماع، في الوقت الراهن علي الاقل، هو الرئيس الامريكي جورج بوش، ليس حبا فيه او ايمانا بكفاءته وقدراته، وانما لأنه لا يملك البديل له، ويخشي من حدوث فراغ سياسي، وأزمة دستورية، في ظل وضع امني متدهور لا يسمح باجراء انتخابات جديدة، علاوة علي كفر العراقيين بأكذوبة الديمقراطية الامريكية لما جرته عليهم من مصائب وكوارث وتطهير عرقي ومئات آلاف القتلي وملايين الجرحي.
نصف وزراء السيد المالكي انسحبوا من حكومته، والنصف الآخر المتبقي يعيش في حالة من الشلل، ويحظي بقليل من الشرعية، لان بعضه ينتمي الي حزب الدعوة الذي يمثله رئيس الوزراء، اما البعض الآخر فاستمرأ المنصب الوزاري وامتيازاته، وقرر التمرد علي التكتل السياسي الذي ينتمي اليه، مثلما هو حال وزراء السيد اياد علاوي وتكتله.
اي رئيس وزراء يعيــش ظروفا كهــذه، ويواجه العــزلة والنــبذ من معظــم الوان الطيــف الســياسي في الــبلد الذي يـــرأس حكومته، مـــن المفـــترض ان يقــدم استقالته، ويحل حكـــومته، ويدعـــو الي انتخابات عامة، طالما انه يردد ايمانه بالديمــقراطية، ويتغني بفضائلها، مثلما هو حال السيد المالكي، ولكن الاخير متشبث بموقعه، ويرفض مغادرته، حتي لو بقي لوحده في الحكومة.
بالأمس انتفضت كرامة السيد المالكي، وظهرت قوية في مؤتمر صحافي عقده للرد علي كل الذين طالبوا بإقالته، ومن بينهم السيدة هيلاري كلينتون المرشحة الابرز لتمثيل الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الامريكية المقبلة، وبرنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي، وكارل ليفين عضو الكونغرس الامريكي.
السيد المالكي قال ان بعض المسؤولين في الكونغرس الامريكي يتحدثون عن العراق وكأنه ضيعة من ضيعات تابعة لذلك الشخص او ذاك . وتهجم علي وزير الخارجية الفرنسي كوشنير بالطريقة نفسها واللغة نفسها التي كان يستخدمها والكثير من المؤيدين للغزو والاحتلال الامريكيين لتبرير تدمير العراق، عندما قال مخاطبا وزير الخارجية الفرنسي بالأمس كنتم تصطفون مع النظام السابق، واليوم فرحنا بكم لأنكم عدتم تصطفون معنا، ومع ضحايا النظام السابق، ولكن يجب ان تحترموا هذه اللياقات والعلاقات ونطالبكم بالاعتذار لهذه الحكومة .
ومن المفارقة ان السيد المالكي في غمرة غضبته غير المسبوقة هذه، اعتبر هذه التصريحات تدخلا سافرا وغير مقبول في الشأن الداخلي العراقي، وطالب بتوقفه فورا، وكأن العراق دولة مستقلة، وكأن السيد المالكي يمكن ان يبقي ساعة واحدة في موقعه بدون مئتي الف جندي امريكي وبريطاني واوروبي يحتلون ارض بلاده، وبمباركة منه واستجدائه لاستمرار وجودهم.
ينسي السيد المالكي ان العراق بلد خاضع للاحتلال، ممزق الاوصال، يعيش فوضي دموية، ويقف ابناؤه لأيام امام محطات البنزين لملء خزانات سياراتهم في بلد يملك احتياطيا نفطيا يزيد عن مئة وعشرين مليار برميل علي الاقل.
نعم.. العراق تحول الي ضيعة من ضيعات هيلاري كلينتون وكارل ليفين، بفضل سياسيين عراقيين من امثاله تعاونوا مع مشاريع احتلال بلادهم للاطاحة بالنظام السابق، لإشفاء غليلهم الشخصي، وعندما وصلوا الي الحكم قدموا البديل المرعب الذي نراه حاليا، لانهم تصرفوا انطلاقا من احقادهم الطائفية، ونزعـــتهم الدموية الانتـــقامية وفشــــلوا في ان يكونوا حكاما للعراق الواحـــد المتعــايش، وهم الذين رفعـــوا راية الدعــوة الاسلامية عــندما كانوا يطالبون بالمساواة والتسامح اثناء منفاهم في دول الجوار.
ان رضوخ السيد المالكي الذي اعلن عنه امس لبعض شروط ومطالب خصومه برفع الحظر عن توظيف البعثيين في الحكومة او تجنيدهم في الجيش، بعد تصاعد الضغوط الامريكية عليه، هو تأكيد علي عدم استقلال قراره اولا، وخطأ السياسات التي تبناها، هو، ومن سبقه، وعلي رأسها قرار اجتثاث البعث.
وحتي انتقادات السيد المالكي للجيش الامريكي وعملياته العسكرية الدموية التي اودت بحياة المئات من الابرياء في مدينة الصدر، جاءت ايضا من منطلقات طائفية ومذهبية، لان السيد المالكي لم يوجه هذه الانتقادات للامريكيين وقواتهم ومجازرهم عندما كانت تستهدف المدنيين الابرياء في الفلوجة والقائم والانبار.
العراق ظل عزيزا سيدا مهابا عندما كان يحكمه الغيورون علي هويته العربية الاسلامية، المدافعون عن كرامته الوطنية، ولم يتحول الي هذه الصورة المحزنة المؤلمة الا بعد ان حكمه الطائفيون المتواطئون مع الغزاة المحتلين.
نذكّر السيد المالكي وجميع اقرانه باحتفالاتهم العارمة بدخول الدبابات الامريكية الي بغداد، وقرار مجلس الحكم باعتبار يوم سقوط بغداد عيدا وطنيا يستحق الاحتفال، لانه يؤرخ لمرحلة التحرير المجيدة.
هزيمة المحررين الامريكان باتت وشيكة للغاية، وانسحاب القوات البريطانية من قاعدتها في البصرة يوم امس، وتزايد المطالبات بانسحاب نظيرتها الامريكية تأكيد علي ان الهزيمة قد تحققت، وان البقاء بات مستحيلا. الرئيس جورج دبليو بوش قارن بين العراق وفيتنام، وقال انه لن يسحب قواته من العراق حتي لا يتكرر ما حدث في فيتنام بعد انسحاب مماثل، مستخلصا الدروس الخطأ التي جعلته موضع سخرية المؤرخين بفعل جهله.
ولكن الدرس الذي يجب ان يستخلصه السيد المالكي وكل الذين دخلوا العراق مع الاحتلال، هو ان يستذكروا دروس زملائهم الفيتناميين الذين تعاونوا مع المحتلين الامريكيين.
السيد المالكي لا يحب ان يعتذر وزملاؤه للشعب العراقي عن المستنقع الدموي الذي اغرقوه فيه فقط، وانما ان يقدموا جميعا الي المحاكمة، لانهم يشتركون مع الغزاة والمحتلين الامريكان، في مسؤولية استشهاد مليون عراقي وتشريد خمسة ملايين آخرين، علاوة علي كل المآسي الاخري التي تحل بالعراقيين حاليا. لان الجرائم التي ارتكبوها تتواضع امامها خجلا جرائم النظام العراقي الذي يحاكمون اعضاءه حاليا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق